الجزء الثاني
يمتلك العنف تأثيرًا قويًا تبدئين في توقعه. تتعلمي كيف تكتسبي وعيًا مختلفًا بجسدك من خلال هذا التوقع. عندما تشعري بأن العالم يمثل خطرًا، فإن علاقتك بجسدك هي التي تتغير، تصبحي أكثر حذرًا وخجلًا، قد تتوارين تحسبًا لتكرار ما حدث من قبل. قد تكون تجاربك الخاصة هي التي تقودك إلى هذا، إلى الحذر الماثل في التواري، ولكنه قد يكون أيضًا ما تعلمته من الآخرين. لقد تعلمتِ أن تكوني حذرة، أن تمتلئي بالحرص حتى تصبحين قلقة بشأن احتمال التعرض الانهيار.
تبدئين في معرفة أن توخي الحذر، وعدم تعرضك لأشياء من هذا القبيل لك، هو وسيلة لتجنب الضرر. إنه لمصلحتك. وسوف تشعري بالنتيجة إذا حدث شيء ما، فقد فشلت في منع حدوثه. تشعرين بالسوء تحسبًا لفشلك. تتعلمي أيضًا أن تتقبلي أن التعرض للعنف هي احتمالية وشيكة، وأن تتدبري أمرك كطريقة للتعامل مع العواقب. تتعلمين العناية بنفسك من خلال توخي الحذر بشأن الآخرين.
أتذكر أن رجل شرطة جاء إلى حجرة الدراسة ذات مرة ليعلمنا جميعًا ما أسماه “خطر الغرباء”. تلقينا الدرس كما هو معتاد، كتعليمات بسيطة: لا تتحدثي إلى الغرباء. استحُضرت صورة في ذهني لشخص غريب، لم استمدها من تجربتي الخاصة وحسب ولكن أيضًا من هذه التعليمات. صورته، جسده، شكله، بدا وكأنه سحر.
بدأت الفصل الأول من كتابي Strange Encounters من خلال استحضار هذه الصورة: الغريب كشخصية غامضة ترتدي معطف واق من المطر متلألئ عند القدمين. الشرطة أيضًا، عندما استحضرت هذا الغريب، أعطتني جسدًا أضع فيه قلقي. إذا كان الغريب يمكن أن يكون أي شخص، فإن الغريب كان شخصًا أعترف به، شخص يمكنني البحث عنه.
“خطر الغرباء” هو سيناريو مؤثر وعاطفي. بعض الأجساد تصبح خطرة والبعض الآخر معرضة للخطر. بصفتنا فتيات، نتعلم أن نكون حذرات ومتحفظات في الأماكن العامة حيث يوجه هذا الحذر نحو أولئك الذين لا ينتمون لنا، والذين يكون وجودهم أو قربهم منا غير مشروع. الغريب المتسكع. يصبح الغريب حاوية للخوف.
يتحول العنف إلى تعليمات عندما يكون مصحوبًا بسرد أو تفسير. عندما تتعلمي شيئًا ما، عندما تستقبلي الرسالة الكامنة في تلك التعليمات، تكتسب مشاعرك الاتجاه والشكل. يتفاعل جسدك بالطريقة الصحيحة. تتساءل إيريس ماريون يونج (1990) في كتابها “Throwing like a Girl” كيف تصبح الفتيات “مثل الفتيات” من خلال الكيفية التي يكتسبن بها الوعي بأجسادهن. يقل شأن الفتيات بما يفعلنه وما لا يفعلنه. تقيد الفتيات أنفسهن من خلال تقييد كيفية استخدامهن لأجسادهن. تطلق يونج على هذا التقييد “القصدية المكبوحة”، مستخدمة مثال “كيف تتعلم الفتيات الرمي”، من خلال كبح أجسادهن عن عمل شيء ما.
يتعلق كونك فتاة بالكيفية التي تختبرين بها علاقة جسدك بالبيئة المحيطة. الجندرة تعمل على الكيفية التي تحتل بها الأجساد المساحات. فكري في المخالطة الاجتماعية المكثفة في مترو الأنفاق أو القطار، وكيف يستريح بعض الرجال عادةً، وساقيهم مفتوحتين على مصراعيها، لا يشغلون المساحة الموجودة أمام مقعدهم فحسب، بل المساحة الموجودة أمام مقاعد أخرى. قد ينتهي الأمر بعدم وجود مساحة كبيرة أمام مقاعد النساء الجالسات، حيث تم شغل تلك المساحة. لنتكيف مع الأمر، فإننا نشغل مساحة أقل. كلما تكيفنا أكثر، قلت المساحة التي يتعين علينا شغلها. الجندر: حلقة، وتضييق.
يمكن للعالم أن ينكمش عندما ننكمش. علمتنا جوديث بتلر (1993) أن نفكر في “التأنيث” كآلية اجتماعية. يولد الطفل، قد نقول: “إنها فتاة!” أو “إنه ولد!”. حتى قبل الولادة، قد نرى جنس المولود من خلال التصوير بالموجات فوق الصوتية؛ لنرى ما إذا كانت فتاة أم فتى، حيث يتم تحديد ذلك بحكم غياب أو وجود القضيب. يستند التعلق بالجنس منذ البداية على مركزية القضيب، على القضيب كمقرر للمستقبل. الجنسان كمسارين: ثنائية الجنس كمصير، قدر، كقدرية. حتى عندما ننتقد التمييز بين الجنسين، حتى عندما نتعلم من الانتقادات النسوية لهذا التمييز (Gatens 1983؛ Butler 1990)، نعلم أن هذا التمييز يعمل كشكل من أشكال التسلسل. كما لو كان الجندر يتبع الجنس.
يمكننا أن نطلق على هذا التسلسل “القدرية الجندرية”، وكما يوحي ذلك الافتراض بأن “الأولاد يظلون أولادًا”. أتذكر عبارة “الأولاد يظلون أولادًا” التي يقولها البالغون غالبًا، مع إيماءة بالرأس ونغمة تسامح. يتم إيضاح عدم السيطرة، وحتى العدوان والعنف بأن “الأولاد يظلون أولادًا”. تستند “القدرية الجندرية” إلى الأفكار المتعلقة بالطبيعة، بالإضافة إلى الوقت: ما سيكون “يتم تحديده من خلال” ماهيته. هذا ما يبدو عليه الأولاد والفتيات أيضًا. لكن التماثل لا يصبح مجرد تفسير (يا له من صبي) لكنه أيضا توقع. صيغة المستقبل في” الأولاد يظلون أولادًا “تكتسب قوة التنبؤ، ويتحول التنبؤ إلى أمر. سوف تكون فتى. وعندما تمتثل لهذا الأمر، تصبح مقبولا، وترقى إلى مستوى التوقعات.
يُحدد الجنس كمهمة، واجب منزلي. لا عجب أن مجرد الوصف (إنها فتاة.. إنه ولد!) يوفر أساس المهمة (أن تكون فتى! أن تكون فتاة!) بالإضافة إلى الأمر (ستكون فتى! ستكون فتاة!). لتلقي مهمة، يجب أن تُعطى علامة: صبي أو فتاة. هذا أو تفعل شيئا، يتم تسجيله كمعارضة: واحد أو الآخر.
العلامة: هي ما يعني أو يدل على شيء ما. المادة والمعنى متشابكان بشدة معًا منذ البداية. إنه ليس (الجنس)، ويتبعه (الجندر). إذا تم تحديد جنسك كأنثى أو ذكر، فإنه يتم ضمك أيضًا إلى مجموعة. المهمة هي ما تتلقاه من الآخرين والذي سيحدد وضعك بالنسبة لهم. نحن أكثر من هذه المهام منذ البداية.
يمكننا أن نشعر أو لا نشعر بالألفة أثناء المهمة. المهمة مثل الواجب المنزلي. أن يتم تخصيص جنس لك في هذا النظام الثنائي هو طريقة لتوجيهك نحو المستقبل. ربما يتحول الجندر لعمل بشكل متزايد بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بتآلف أقل مع مهامهم الأصلية. قد لا نشعر، في وقت مبكر، بتآلف مع الجسد من خلال عدم شعورنا بالتآلف مع العلامات. وقد يتم إعادة تكليفنا بشكل دائم تذكيرًا بأن مهمتنا تتخلل حياتنا مثل قواعد اللغة. ولذلك لا يتوقف “التأنيث” عن الحدوث، حتى بعد أن يتم التصريح بأننا فتيات. كما توضح جوديث بتلر، “إن تأنيث الفتاة لا ينتهي عند هذا الحد” (1993, xvii). وبدلاً من ذلك، “تكرر السلطات المختلفة هذا الاستنطاق التأسيسي”. الأمر ليس مجرد أن العلامة تشير إلى شيء ما. ما يهم هو الذي يخاطبك من خلال العلامة، وكيف تستقبليها.
لا يتم “تأنيث” الفتاة فقط من خلال مخاطبتها بشكل صريح كفتاة، ولكن أيضًا من خلال أسلوب أو نمط الخطاب: نظرًا لأنك فتاة، يمكننا أن نفعل هذا بك. العنف أيضا هو أسلوب مخاطبة. أن تكوني فتاة هي طريقة لتعليمك ما يعنيه أن تمتلكين جسدًا. يقال لك: سوف تتعرضين للإيماءات الجنسية. أنت مجرد شيء، لا شيء. أن تصبحي فتاة هو أن تتعلمي توقع مثل هذه التعديات، وأن تعدلي سلوكك وفقًا لذلك. أن تصبحي فتاة: كأن تحذرين من التواجد في الأماكن العامة، أن تحذرين من وجودك في المطلق. في الواقع، إذا لم تقومي بتعديل سلوكك وفقًا لذلك، وإذا لم يكن لديك الحرص والحذر، قد يحملك ذلك مسؤولية العنف الموجه نحوك (انظري إلى ما كنت تشربيه، وانظري إلى ما ترتدينه، وانظري أين كنتِ). قد تتحملي المسؤولية سواء قمت بتعديل سلوكك وفقًا لذلك أم لا؛ لأن “القدرية الجندرية” قد أوضحت بالفعل العنف الموجه ضدك على أنه أمر لا مفر منه ويمكن التصالح معه.
وثقت النسويات على مر الأجيال عنف الأحكام التي تتبع العنف الذي تتعرض له النساء والفتيات. التوثيق مشروع نسوي. مشروع حياة.
لقراءة الجزء الأول من هنا